لصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة ، فنرجو التأمل فيها ، ففيها وصف دقيق للمرض ، ووصف للعلاج .
قال ابن القيم رحمه الله :
"قاعدة الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة :
أحدها : عِلْم العبدِ بقبحها ، ورذالتها ،
ودناءتها ، وأن الله إنما حرَّمها ، ونهى عنها صيانة ، وحماية عن الدنايا
، والرذائل ، كما يحمي الوالدُ الشفيقُ ولدَه عما يضرُّه ، وهذا السبب
يحمل العاقل على تركها ، ولو لم يعلق عليها وعيد بالعذاب .
السبب الثاني : الحياء من الله سبحانه ؛ فإن
العبد متى علم بنظره إليه ، ومقامه عليه ، وأنه بمرأى منه ومسمع وكان
حيِّيّاً : استحيى من ربه أن يتعرض لمساخطه .
السبب الثالث : مراعاة نعَمه عليك ، وإحسانه
إليك ؛ فإن الذنوب تزيل النعَم ، ولا بد ، فما أذنب عبدٌ ذنباً إلا زالت
عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب ، فإن تاب ، وراجع : رجعت إليه أو مثلها
، وإن أصرَّ : لم ترجع إليه ، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حتى تُسلب
النعمُ كلها ، قال الله تعالى : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم ) ، وأعظم النعَم : الإيمان ، وذنب الزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر
، وانتهاب النهبة : يزيلها ، ويسلبها ، وقال بعض السلف : أذنبتُ ذنباً
فحرِمت قيام الليل سنَة ، وقال آخر : أذنبتُ ذنباُ فحرمتُ فهم القرآن ،
وفي مثل هذا قيل :
إذا كنتَ في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعَم
وبالجملة : فإنَّ المعاصي نارُ النعم تأكلها ، كما تأكل النار الحطب ، عياذاً بالله من زوال نعمته ، وتحويل عافيته .
السبب الرابع : خوف الله ، وخشية عقابه ،
وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ، ووعيده ، والإيمان به ، وبكتابه ،
وبرسوله ، وهذا السبب يَقوى بالعلم واليقين ، ويضعف بضعفهما ، قال الله
تعالى : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) ، وقال بعض السلف : كفى
بخشية الله علماً ، والاغترار بالله جهلاً .
السبب الخامس : محبة الله ، وهي أقوى
الأسباب في الصبر عن مخالفته ، ومعاصيه ؛ فإن المحب لمن يحب مطيع ، وكلما
قوي سلطان المحبة في القلب : كان اقتضاؤه للطاعة ، وترك المخالفة أقوى ،
وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها ، وفرقٌ بين من
يحمله على ترك معصية سيده خوفه من سوطه وعقوبته ، وبين من يحمله على ذلك
حبه لسيده ... .
السبب السادس
: شرف النفس ، وزكاؤها ، وفضلها ، وأنفتُها ، وحميتها أن تختار الأسباب
التي تحطها ، وتضع من قدرها ، وتخفض منزلتها ، وتحقرها ، وتسوِّي بينها
وبين السفلة .
السبب السابع
: قوة العلم بسوء عاقبة المعصية ، وقبح أثرها ، والضرر الناشيء منها من :
سواد الوجه ، وظلمة القلب ، وضيقه ، وغمِّه ، وحزنه ، وألمه ، وانحصاره ،
وشدة قلقه واضطرابه ، وتمزق شمله ، وضعفه عن مقاومة عدوه ، وتعريه من
زينته ، والحيرة في أمره ، وتخلي وليه وناصره عنه ، وتولي عدوه المبين له
، وتواري العلم الذي كان مستعدّاً له عنه ، ونسيان ما كان حاصلاً له أو
ضعفه ولا بد ، ومرضه الذي إذا استحكم به فهو الموت ولا بد ؛ فإن الذنوب
تميت القلوب ... .
وبالجملة : فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علماً ،
وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علماً ، فخير الدنيا والآخرة
بحذافيره في طاعة الله ، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته ، وفي بعض
الآثار يقول الله سبحانه وتعالى : ( من ذا الذي أطاعني فشقي بطاعتي ، ومن
ذا الذي عصاني فسعد بمعصيتي ) .
السبب الثامن : قصر الأمل ، وعلمه بسرعة
انتقاله ، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها ، أو كراكب قالَ
في ظل شجرة ثم سار وتركها ، فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حريص على
ترك ما يثقله حمله ويضره ولا ينفعه ، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته ،
فليس للعبد أنفع من قصر الأمل ، ولا أضر من التسويف وطول الأمل .
السبب التاسع : مجانبة الفضول في مطعمه ،
ومشربه ، وملبسه ، ومنامه ، واجتماعه بالناس ؛ فإن قوة الداعي إلى المعاصي
إنما تنشأ من هذه الفضلات ، فإنها تطلب لها مصرفاً فيضيق عليها المباح
فتتعداه إلى الحرام ، ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد : بطالته ، وفراغه
؛ فإن النفس لا تقعد فارغة ، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره ،
ولا بد .
السبب العاشر :
وهو الجامع لهذه الأسباب كلها : ثبات شجرة الإيمان في القلب ، فصبر العبد
عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه ، فكلما كان إيمانه أقوى : كان صبره
أتم ، وإذا ضعف الإيمان : ضعف الصبر ، فإن من باشر قلبَه الإيمانُ بقيام
الله عليه ، ورؤيته له ، وتحريمه لما حرم عليه وبغضه له ومقته لفاعله ،
وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب والجنة والنار : امتنع من أن لا يعمل
بموجب هذا العلم ، ومن ظن أنه يقوى على ترك المخالفات والمعاصي بدون
الإيمان الراسخ الثابت : فقد غلط ، فإذا قوي سراج الإيمان في القلب وأضاءت
جهاته كلها به وأشرق نوره في أرجائه : سرى ذلك النور إلى الأعضاء ، وانبعث
إليها ، فأسرعت الإجابة لداعي الإيمان ، وانقادت له طائعة مذللة غير
متثاقلة ولا كارهة ، بل تفرح بدعوته حين يدعوها ، كما يفرح الرجل بدعوة
حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته ، فهو كلَّ وقتٍ يترقب داعيه ، ويتأهب
لموافاته ، والله يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم " .
والمطلوب من المسلم أن يعرف حقيقة ما أراده الله من الصوم ، ويعرف الدافع
له لفعل المعصية ، فيبتعد عنه ، ويهجره ، ويبغضه ، وما نقلناه من كلام ابن
القيم يوضح هذا ويبينه أحسن بيان .
والله أعلم
قال ابن القيم رحمه الله :
"قاعدة الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة :
أحدها : عِلْم العبدِ بقبحها ، ورذالتها ،
ودناءتها ، وأن الله إنما حرَّمها ، ونهى عنها صيانة ، وحماية عن الدنايا
، والرذائل ، كما يحمي الوالدُ الشفيقُ ولدَه عما يضرُّه ، وهذا السبب
يحمل العاقل على تركها ، ولو لم يعلق عليها وعيد بالعذاب .
السبب الثاني : الحياء من الله سبحانه ؛ فإن
العبد متى علم بنظره إليه ، ومقامه عليه ، وأنه بمرأى منه ومسمع وكان
حيِّيّاً : استحيى من ربه أن يتعرض لمساخطه .
السبب الثالث : مراعاة نعَمه عليك ، وإحسانه
إليك ؛ فإن الذنوب تزيل النعَم ، ولا بد ، فما أذنب عبدٌ ذنباً إلا زالت
عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب ، فإن تاب ، وراجع : رجعت إليه أو مثلها
، وإن أصرَّ : لم ترجع إليه ، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حتى تُسلب
النعمُ كلها ، قال الله تعالى : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم ) ، وأعظم النعَم : الإيمان ، وذنب الزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر
، وانتهاب النهبة : يزيلها ، ويسلبها ، وقال بعض السلف : أذنبتُ ذنباً
فحرِمت قيام الليل سنَة ، وقال آخر : أذنبتُ ذنباُ فحرمتُ فهم القرآن ،
وفي مثل هذا قيل :
إذا كنتَ في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعَم
وبالجملة : فإنَّ المعاصي نارُ النعم تأكلها ، كما تأكل النار الحطب ، عياذاً بالله من زوال نعمته ، وتحويل عافيته .
السبب الرابع : خوف الله ، وخشية عقابه ،
وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ، ووعيده ، والإيمان به ، وبكتابه ،
وبرسوله ، وهذا السبب يَقوى بالعلم واليقين ، ويضعف بضعفهما ، قال الله
تعالى : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) ، وقال بعض السلف : كفى
بخشية الله علماً ، والاغترار بالله جهلاً .
السبب الخامس : محبة الله ، وهي أقوى
الأسباب في الصبر عن مخالفته ، ومعاصيه ؛ فإن المحب لمن يحب مطيع ، وكلما
قوي سلطان المحبة في القلب : كان اقتضاؤه للطاعة ، وترك المخالفة أقوى ،
وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها ، وفرقٌ بين من
يحمله على ترك معصية سيده خوفه من سوطه وعقوبته ، وبين من يحمله على ذلك
حبه لسيده ... .
السبب السادس
: شرف النفس ، وزكاؤها ، وفضلها ، وأنفتُها ، وحميتها أن تختار الأسباب
التي تحطها ، وتضع من قدرها ، وتخفض منزلتها ، وتحقرها ، وتسوِّي بينها
وبين السفلة .
السبب السابع
: قوة العلم بسوء عاقبة المعصية ، وقبح أثرها ، والضرر الناشيء منها من :
سواد الوجه ، وظلمة القلب ، وضيقه ، وغمِّه ، وحزنه ، وألمه ، وانحصاره ،
وشدة قلقه واضطرابه ، وتمزق شمله ، وضعفه عن مقاومة عدوه ، وتعريه من
زينته ، والحيرة في أمره ، وتخلي وليه وناصره عنه ، وتولي عدوه المبين له
، وتواري العلم الذي كان مستعدّاً له عنه ، ونسيان ما كان حاصلاً له أو
ضعفه ولا بد ، ومرضه الذي إذا استحكم به فهو الموت ولا بد ؛ فإن الذنوب
تميت القلوب ... .
وبالجملة : فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علماً ،
وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علماً ، فخير الدنيا والآخرة
بحذافيره في طاعة الله ، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته ، وفي بعض
الآثار يقول الله سبحانه وتعالى : ( من ذا الذي أطاعني فشقي بطاعتي ، ومن
ذا الذي عصاني فسعد بمعصيتي ) .
السبب الثامن : قصر الأمل ، وعلمه بسرعة
انتقاله ، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها ، أو كراكب قالَ
في ظل شجرة ثم سار وتركها ، فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حريص على
ترك ما يثقله حمله ويضره ولا ينفعه ، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته ،
فليس للعبد أنفع من قصر الأمل ، ولا أضر من التسويف وطول الأمل .
السبب التاسع : مجانبة الفضول في مطعمه ،
ومشربه ، وملبسه ، ومنامه ، واجتماعه بالناس ؛ فإن قوة الداعي إلى المعاصي
إنما تنشأ من هذه الفضلات ، فإنها تطلب لها مصرفاً فيضيق عليها المباح
فتتعداه إلى الحرام ، ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد : بطالته ، وفراغه
؛ فإن النفس لا تقعد فارغة ، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره ،
ولا بد .
السبب العاشر :
وهو الجامع لهذه الأسباب كلها : ثبات شجرة الإيمان في القلب ، فصبر العبد
عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه ، فكلما كان إيمانه أقوى : كان صبره
أتم ، وإذا ضعف الإيمان : ضعف الصبر ، فإن من باشر قلبَه الإيمانُ بقيام
الله عليه ، ورؤيته له ، وتحريمه لما حرم عليه وبغضه له ومقته لفاعله ،
وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب والجنة والنار : امتنع من أن لا يعمل
بموجب هذا العلم ، ومن ظن أنه يقوى على ترك المخالفات والمعاصي بدون
الإيمان الراسخ الثابت : فقد غلط ، فإذا قوي سراج الإيمان في القلب وأضاءت
جهاته كلها به وأشرق نوره في أرجائه : سرى ذلك النور إلى الأعضاء ، وانبعث
إليها ، فأسرعت الإجابة لداعي الإيمان ، وانقادت له طائعة مذللة غير
متثاقلة ولا كارهة ، بل تفرح بدعوته حين يدعوها ، كما يفرح الرجل بدعوة
حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته ، فهو كلَّ وقتٍ يترقب داعيه ، ويتأهب
لموافاته ، والله يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم " .
والمطلوب من المسلم أن يعرف حقيقة ما أراده الله من الصوم ، ويعرف الدافع
له لفعل المعصية ، فيبتعد عنه ، ويهجره ، ويبغضه ، وما نقلناه من كلام ابن
القيم يوضح هذا ويبينه أحسن بيان .
والله أعلم